كان صباحاً عادياً بشكل مخادع في مكتب نور عبد الحميد الكائن في إحدى البنايات الهادئة بحي الدقي. أشعة الشمس تتسلل بخجل عبر الستائر المعدنية، مضيئةً أكوام الملفات التي تشير إلى نشاط محموم أكثر من كونه فوضى. رائحة القهوة الباردة، الرفيق الدائم لليالي العمل الطويلة، كانت تمتزج برائحة الورق القديم.
نور، بوجهها الجاد الذي تخفي خلفه عقل متقد وعاطفة قوية، كانت تدقق في مستندات قضية احتيال معقدة، لكن جزءًا من تفكيرها كان مشغولاً بمكالمة والدتها الليلة السابقة التي أعادت إلى ذهنها المقارنات الدائمة بينها وبين شقيقها "الناجح".
حموكشة، مساعدها الذي يعوض افتقاره النسبي للبراعة الفائقة بولاء مطلق وقلب طيب (وروح فكاهية غالباً غير مقصودة)، كان يخوض معركته اليومية مع طابعة المكتب العنيدة. "يا أستاذة نور! الطابعة دي عاملة زي موظفين الشهر العقاري، مش عايزة تتحرك إلا بوسايط! يمكن عايزة بقشيش حبر؟"
نور ردت بابتسامة باهتة دون أن ترفع عينيها عن الأوراق: "معلش يا حموكشة، سيبها دلوقتي وأبقى شوف لها كهربائي عدل، أنت بتجيب لها الضغط."
في ركنه المفضل، فوق كنبة جلدية قديمة أكل عليها الدهر وشرب، استلقى تيمور. قط شيرازي أبيض ناصع، بعيون زرقاء صافية تلمع بذكاء يتجاوز حدود فصيلته. لم يكن مجرد قط، بل كان مراقباً صامتاً، فيلسوفاً له نظرته الخاصة في عبثية الوجود البشري. كان يتظاهر بقراءة نسخة إنجليزية من "هكذا تكلم زرادشت"، وإن كان اهتمامه الحقيقي منصباً على الدراما اليومية لأهل المكتب.
"يا لسخف القدر الذي يجعل كائنات عاقلة تستسلم أمام غضب آلة!" تمتم تيمور بصوت داخلي، موجهاً حديثه (غير المسموع) لـحموكشة. "لو أن الطابعة تمتلك وعياً فلسفياً، لربما تعاونت."
في تلك اللحظة، دخل حموكشة وفي يده جريدة "أخبار المدينة" التي يشتريها كل صباح ليتابع صفحة "ما قل ودل" وأخبار فريق الأهلي. "بصي يا أستاذة نور الإعلان العجيب ده!" قال وهو يشير إلى مربع صغير في صفحة الإعلانات المبوبة. "جايبينه في إعلانات شقق الإيجار! إعلان غريب أوي!"
مدت نور يدها لتتناول الجريدة بفضول، وانضم إليهما تيمور الذي قفز بخفة من الكنبة، ففضوله الفكري لا يقتصر على الكتب فقط. قرأت نور بصوت عالٍ، وارتسمت علامات الدهشة على وجهها تدريجياً:
"يُعلَن عن وقوع حدثٍ جَلَل في فيلا المرحوم السكري باشا، الكائنة بـ 15 شارع مصدق بالدقي، وذلك في تمام الساعة الثامنة من مساء يوم الخميس المقبل. الدعوة موجهة للأصدقاء والمعارف... وأصحاب الفضول الشديد."
رفع حموكشة حاجبيه. "حدث جلل؟ زي إيه يعني؟ فرح مفاجئ؟ افتتاح محل كشري جديد؟ ولا ممكن تكون كاميرا خفية من بتوع رمضان اللي بيعملوها بدري دي؟"
"الأمر يتجاوز الدعابة يا حموكشة،" علّق تيمور بجدية مفاجئة لم تسمعها نور بالطبع. "هذا الإعلان يحمل نبرة مشؤومة ومدروسة. استخدام كلمة 'جَلَل' يوحي بما هو أبعد من المزاح."
نور أعادت قراءة الإعلان بصمت. "تهاني هانم السكري؟ أرملة فهمي باشا السكري؟ سيدة محترمة ومنعزلة تقريباً، معروفة بهدوئها وثروتها القديمة.. ليه تعمل إعلان زي ده؟ أو مين ممكن يعمله باسمها؟"
"ممكن حد بيعمل فيها مقلب بايخ يا أستاذة،" قال حموكشة. "أو يمكن تكون دعاية لحاجة غريبة؟ تلاقيها عاملة بيع تصفية للعفش بتاع الباشا!"
"لا يا حموكشة،" قاطعته نور بحسم، وعيناها تضيقان بالتركيز. "صيغة الإعلان مقلقة. كلمة 'جَلَل'.. و'فضول شديد'.. والتحديد الدقيق للمكان والزمان. هذا ليس مقلباً عادياً. هذا يشبه... تمهيداً لشيء ما."
"بالضبط،" أكد تيمور. "إنه يثير التوقع ويضمن الحضور الكثيف... جمهور مثالي لأي 'حدث'."
"يبقى لازم نروح يا أستاذة!" قال حموكشة بحماس مفاجئ. "لو طلع مقلب هنضحك، ولو طلعت عزومة ممكن ناكل جاتوه!"
"هنروح يا حموكشة،" قالت نور بجدية. "لكن مش عشان الجاتوه. هنروح عشان نعرف مين اللي ورا الإعلان ده... وإيه هو الحدث الجَلَل اللي بيحضروا له." نظرت نحو تيمور الذي قابل نظرتها بهزة رأس خفيفة توحي بالفهم. المغامرة القادمة بدأت لتوها.
على الجانب الآخر من المدينة، في مكتب شديد الفخامة والأناقة بإحدى أبراج الزمالك المطلة على النيل، كانت الأجواء مختلفة تماماً. هنا لا رائحة للقهوة الباردة أو الملفات المكدسة، بل رائحة عطر فرنسي باهظ وعبير بخور خفيف يمتزج بصوت نقرات سريعة ومنتظمة على لوحة مفاتيح لابتوب حديث.
مريومة الشناوي، المحامية والمحققة الخاصة التي تعتبر نفسها النجمة الصاعدة في سماء التحقيقات والند الحقيقي لـنور عبد الحميد، كانت تتصفح "أخبار المدينة" بملل مصطنع على تابلت فاخر. ترتدي طقماً أنيقاً وحذاءً من ماركة عالمية، وتضع نظارة شمسية فوق رأسها رغم وجودها داخل المكتب. مريومة تمتلك الذكاء والمكر، لكن طموحها الشديد وغيرتها القاتلة من نجاح نور (التي كانت زميلتها في الدراسة وتفوقت عليها) هما محركها الأساسي.
"سخافات! البلد كلها أخبارها بايخة،" قالت بنبرة متعالية وهي تقلب الصفحات الرقمية بسرعة. "إيه ده؟ إعلان عن 'حدث جلل' عند تهاني السكري؟ في الدقي؟... تافه." ألقت التابلت بإهمال على سطح مكتبها المصنوع من خشب الأبانوس.
من زاوية المكتب، حيث يجلس بهدوء وثبات يشبه تمثالاً، رفع العمروسي عينيه الباردتين عن شاشة اللابتوب. العمروسي هو النقيض المطلق لـحموكشة؛ عبقري حقيقي في التكنولوجيا وتحليل البيانات، استراتيجي من الطراز الأول، لكنه يفتقر تماماً إلى أي بوصلة أخلاقية. هو الذراع الأيمن (والعقل المدبر غالباً) لـمريومة، ينفذ خططها المعقدة ويضيف إليها لمساته الخاصة من المكر التقني. "قرأتُه يا أستاذة مريومة،" قال بصوته الهادئ والمحسوب. "التحليل الأولي للسياق يشير إلى عدة احتمالات: دعابة منظمة، عملية نصب مبتكرة، أو... تمهيد فعلي لحدث يستحق الاهتمام، ربما لأغراض التغطية أو الابتزاز."
"ابتزاز؟ تهاني السكري؟ ست أرملة قاعدة في حالها مع شوية معارف شكلهم كسر زيها،" قالت مريومة بسخرية، لكن لمعة اهتمام بدأت تظهر في عينيها. "بس الفيلا والميراث القديم... مين عارف؟ ولو الموضوع ده وصلت له نور بتاعة الدقي دي... ممكن تطلع منه بسبق صحفي أو قضية تعمل لها اسم أكتر." مجرد ذكر اسم نور أثار حفيظتها.
العمروسي عاد للنقر على لوحة المفاتيح. "المعلومات الأولية عن تهاني السكري محدودة. أرملة، ثروة موروثة، لا أبناء مباشرين. هناك حديث عن وصية معقدة للزوج الراحل قد تعود بالنفع على ورثة آخرين في حالة وفاتها... الأمر قد يكون مثيراً للاهتمام بالفعل."
في تلك اللحظة، تحرك ظل رشيق وهادئ من تحت المكتب، كاشفاً عن قط أسود بلون الفحم، بعيون صفراء حادة. إنه مسعد، قط مريومة (أو بالأحرى، أداة العمروسي الخفية). مسعد ماكر مثل صاحبته، رشيق ومتسلل كأفضل الجواسيس، ويستمتع بإثارة الفوضى والمساعدة في تنفيذ الخطط الملتوية.
"جهز نفسك يا عمروسي،" قالت مريومة وقد اتخذت قرارها. "احجز لنا مكان قريب من الفيلا دي يوم الخميس. هنتفرج على 'الحدث الجَلَل' ده عن قرب. ولو فيه فرصة نطلع بفايدة، أو على الأقل نفسد على ست نور يومها، مش هنفوتها."
العمروسي أومأ برأسه ببرود. "الخطة قيد التنفيذ."
قفز مسعد بهدوء إلى حافة النافذة، ونظر إلى الخارج بعينيه الصفراوين، وكأنه يستشعر وجود غريم أبيض ناصع في مكان ما بالمدينة... "تيمور... سنرى من الأذكى هذه المرة." المعركة القادمة لن تكون بين البشر فقط.
وفي مكتب نور، بدأ الإعداد للمهمة. "تفتكر نلبس إيه يا أستاذة؟" سأل حموكشة بجدية. "لبس سبور ولا رسمي؟ وهما هيجيبوا أكل إيه؟ لازم نعمل حسابنا."
نور تنهدت: "ركز يا حموكشة. الموضوع مش عزومة. ده ممكن يكون خطر." نظرت إلى تيمور الذي كان قد عاد إلى كنبه وبدأ بلعق فروه الأبيض بتركيز، وكأنه يستعد هو الآخر لمواجهة ما هو قادم.
مساء الخميس يقترب، وفريقان للتحقيق يستعدان، كلٌ بدوافعه وأساليبه، للذهاب إلى فيلا السكري، حيث ينتظرهم المجهول في تمام الساعة الثامنة.
كانت ليلة الخميس دافئة ورطبة، من ليالي القاهرة التي تحتفظ بحرارة النهار حتى بعد غروب الشمس. أضواء الشارع الخافتة ترسم ظلالاً طويلة لأشجار الكافور والبوانسيانا العتيقة التي تحف شارع مصدق بالدقي. كانت الفيلا رقم 15 تبدو غارقة في هدوء مهيب؛ بناؤها القديم ذو الطراز الأوروبي يوحي بزمن مضى، وسورها الحديدي المشغول وأعمدة شرفتها الرخامية تحكي قصة ثراء قديم ربما طاله بعض الإهمال.
لكن خلف هذا الهدوء الظاهري، كانت الفيلا تعج بحركة غير معتادة. السيارات الفارهة بدأت تتوافد بتردد، يترجل منها رجال ونساء يتلفتون حولهم بفضول، كأنهم غير متأكدين مما إذا كانوا مدعوين لحفل أم لموقع جريمة وشيكة. لم يكن هناك استقبال رسمي، فقط باب الفيلا الخشبي الثقيل مفتوحٌ على مصراعيه، تضيء منه ثريا كريستال ضخمة في البهو الرئيسي.
وصل فريق نور بسيارة حموكشة القديمة التي أصدرت صوتاً احتجاجياً عالياً عند توقفها، مما لفت أنظار بعض الوافدين الأكثر أناقة. "بالراحة يا حموكشة، خضيت الناس،" همست نور وهي ترتب هندامها. ارتدت زياً عملياً أنيقاً، بينما حموكشة كان في أفضل بذلة لديه (التي بدت لامعة بعض الشيء). تيمور استقر في حقيبة نور الواسعة، فتح طرفها بما يكفي لعينيه الزرقاوين أن ترصدا كل شيء.
بالداخل، كان الصالون الرئيسي الفسيح يعج بالضيوف، أغلبهم من كبار السن الذين تبدو عليهم علامات الثراء القديم والفضول الحالي. الثريا الكريستالية تلقي بضوء قوي على الأثاث الكلاسيكي الثقيل ولوحات الزيت الداكنة التي تزين الجدران. همسات وتكهنات تملأ الهواء، ممزوجة برائحة خفيفة من النفتالين المنبعث من سجاد قديم.
"تجمع غريب الأطوار،" فكر بسخرية. "بشر على حافة الشيخوخة ينتظرون كارثة كشكل من أشكال الترفيه! يا للعبث!"
لمح حموكشة اللواء عادل صدقي وزوجته يقفان يتحدثان إلى الدكتور فؤاد سليمان وزوجته زينات هانم وابنهما الشاب عصام، الذي كان يحاول الظهور بمظهر المفكر العميق. "كل بتوع المعاشات هنا يا أستاذة،" همس حموكشة لـنور. "ناقص بس بياع ترمس ويكمل المولد."
نور كانت ترصد الوجوه، تحاول قراءة ما خلف الابتسامات القلقة والنظرات الفضولية. رأت الآنسة إنصاف والآنسة اعتدال تتحركان كفريق استطلاع، تلتقطان الهمسات وتوزعان النظرات الخبيرة. رأت الشيخ حسين الإمام وزوجته يجلسان في ركن هادئ يراقبان المشهد بتحفظ.
فجأة، دخلت مريومة الشناوي بثقة لافتة، مرتدية فستاناً أسود أنيقاً يبرز قامتها، وتبعتها خطى العمروسي الهادئة الثابتة، بينما انسل مسعد كالظل واختفى تحت أقرب طاولة مزينة بمفرش دانتيل. ابتسمت مريومة ابتسامة عريضة عندما لمحت نور، واقتربت منها. "نور! مش معقول! أنتِ كمان جاية تتفرجي على 'الحدث الجَلَل'؟ ولا بتدوري على قضية جديدة؟"
ردت نور بهدوء بارد يخفي توترها من وجود منافستها: "فضول مش أكتر يا مريومة. واضح إن الموضوع جذب ناس كتير."
كان تيمور قد لمح مسعد وهو يختفي، شعر بوجود الغريم اللدود، وأرهف حواسه استعداداً لأي تحرك مريب من فريق الظل.
في وسط القاعة، كانت تقف المضيفة، تهاني هانم السكري، بجانب صديقتها الثرثارة درية هانم شاكر. بدت تهاني هانم شاحبة بعض الشيء تحت طبقة خفيفة من المساحيق، تبتسم للضيوف وتتلقى تساؤلاتهم الفضولية بهدوء مصطنع، بينما كانت درية هانم تنتقل بين المجموعات تطلق النكات والتكهنات بصوت عالٍ. لاحظ تيمور عقد اللؤلؤ الكبير الذي تزين به تهاني هانم رقبتها، والذي بدا غير متناسق مع ملابسها وبسيط بشكل لافت للانتباه لثرائها المفترض.
"يا ترى بتعمل إيه الست دي دلوقتي؟" تمتم حموكشة وهو ينظر إلى ساعة الحائط القديمة التي تقترب عقاربها ببطء من الثامنة. "يعني هي اللي عملت الإعلان ولا إيه؟ طب هتعمل إيه؟ هترقص لنا مثلاً؟"
نور أسكتته بنظرة حادة. الأجواء أصبحت مشحونة بالترقب. هدأت الهمسات، وتوجهت كل الأنظار تقريباً نحو ساعة الحائط. دقات الثواني بدت كأنها دقات طبول تعلن عن بداية العرض الغامض...
وفي ركن مظلم تحت البيانو الكبير، تقابلت عيون زرقاء صافية مع عيون صفراء متقدة للحظة خاطفة. نظرة تحدٍ صامتة بين تيمور ومسعد قبل أن يعود كلٌّ إلى مراقبة عالمه الخاص... وعالم البشر المضطرب المحيط بهما.
دَقت الساعة العتيقة في بهو الفيلا ثماني دقات رنانة، اخترقت الصمت المشوب بالترقب الذي خيم على الصالون. تَلفت الضيوف، نظر بعضهم لبعض بتساؤل، وارتسمت ابتسامات قلقة على بعض الوجوه.
"قلت لكم مقلب،" همس عصام ابن الدكتور فؤاد بنبرة متعالمة.
لكن كلماته لم تكد تنتهي حتى، وبدون سابق إنذار، انطفأت الثريا الكريستالية والأباجورات الجانبية فجأة، وغرق الصالون في ظلام شبه دامس، لم تخترقه سوى أضواء الشارع الخافتة المتسللة من النوافذ العالية. تعالت شهقات مكتومة وصرخة خافتة.
"إيه ده؟ النور قطع؟" صرخ حموكشة بارتباك.
قبل أن يتمالك أحد أعصابه، انفتح باب الشرفة المطلة على الحديقة الجانبية بعنف، وظهر عند مدخله ظل رجل طويل القامة. شعاع ضوء قوي من مصباح يدوي كبير اخترق الظلام، وجال بسرعة على وجوه الحاضرين المذعورة كأنه يبحث عن هدف معين.
"كله يثبت مكااااانه!" انطلق صوت أجش ومشوَّه، كأن المتحدث يضع شيئاً على فمه.
لم يمهل الظل أحداً فرصة للتفكير. دوت طلقتا رصاص صاخبتان في أرجاء الصالون، لم تبدُا حقيقيتين تماماً، ربما مجرد طلقات صوت؟ لكنهما كانتا كافيتين لإطلاق العنان للذعر. ثم، تلتها مباشرة طلقة ثالثة، صوتها بدا مختلفاً، حاداً ومكتوماً قليلاً، أعقبتها صرخة ألم خافتة جداً كأنها صدرت من تهاني هانم، وصوت ارتطام جسد ثقيل بالأرض قرب الباب الذي ظهر منه المهاجم.
تدحرج المصباح اليدوي على الأرض وانطفأ نوره، ليعم الظلام والقلق والفوضى. صرخات متداخلة، أصوات أقدام متعثرة، همسات مذعورة.
"ولعوا نور! حد معاه ولاعة؟ كشاف موبايل؟" صرخت نور محاولة السيطرة على الموقف بصوتها الحازم.
حاول حموكشة إخراج ولاعته الشهيرة (التي تهديه إياها شركات السجائر مع كل علبة)، لكن يده المرتعشة أسقطتها أرضاً. كان العمروسي أسرع، وبضغطة زر أضاء شاشة هاتفه الحديثة بضوء أبيض قوي، تبعه آخرون باستخدام هواتفهم، لتبدأ معالم الكارثة في الظهور ببطء.
على الأرض قرب باب الشرفة، كان يرقد جثة الشاب سعيد عرفة، مستلقياً على ظهره، بقعة داكنة بدأت تتسع على صدر قميصه الرخيص. بجواره، مسدس صغير، يبدو قديماً أو غير متقن الصنع. على بعد خطوات قليلة، كانت تهاني هانم تتمالك نفسها، تستند على ذراع اللواء صدقي، وتمسح بـ"منديلها" المبلل قليلاً قطرة دم صغيرة تسيل من شحمة أذنها، وجهها شاحب كالموتى.
"ده... ده الشاب اللي كان بيسأل عليكي بره!" تمتمت الآنسة إنصاف بفزع. "قال إنه تبع شركة تأمين..."
اختلطت الأصوات والتساؤلات. "مين ده؟ وليه اتقتل؟ ومين اللي ضرب النار؟ وهل الرصاصة اللي جت في الهانم دي بجد؟"
نور تحركت بسرعة، تحاول منع الفضوليين من الاقتراب من الجثة والمسدس. "محدش يلمس حاجة! حموكشة، اتصل بالنجدة فوراً!"
مريومة كانت تراقب كل شيء بعيون الصقر، وجهها جامد لا يعبر عن شيء، تحلل الموقف وتبحث عن مصلحتها. اختفى العمروسي ومسعد بشكل غير ملحوظ، ربما الأول ليلتقط إشارة شبكة الهاتف الضعيفة خارج الفيلا، والثاني ليتوارى عن الأنظار.
في خضم الفوضى، كان تيمور قد خرج بهدوء من حقيبة نور، وتحرك بحذر في الظلال قرب الجثة. ملاحظاته الأولى كانت حاسمة: موقع الجثة بالنسبة لباب الشرفة المفتوح غير منطقي لو كان هو المقتحم. طريقة سقوط المسدس تبدو مصطنعة. رائحة البارود المختلطة... فيها شيء مريب... كأن رائحة الطلقة القاتلة الحقيقية تختلط برائحة طلقات صوت أو مسحوق ألعاب نارية لإحداث الضجة.
"الأمر أكثر تعقيداً مما يبدو،" همس تيمور لنفسه. "هذا ليس مجرد اقتحام فاشل... إنه إخراج مسرحي متقن... والجريمة الحقيقية ربما لم تحدث بعد."
وصلت دوريات الشرطة والنيابة، وبدأ التحقيق الرسمي وسط حالة من الهلع والارتباك تسيطر على الضيوف الذين تحول فضولهم إلى خوف حقيقي. تم احتجاز الجميع في الصالون الكبير للإدلاء بأقوالهم. في هذه الأجواء المشحونة، كان على نور وفريقها، وعلى فريق الظل المنافس، أن يبدؤوا سباقهم لكشف الحقيقة... أو استغلالها.
تحول صالون فيلا السكري الفاخر إلى مسرح جريمة يعج بالفوضى المنظمة. رجال الشرطة بملابسهم الرسمية يتحركون بخطوات محسوبة، يضعون علامات حول الأدلة، يصورون المكان، بينما يحاول ضابط شاب، يبدو عليه التوتر لقيمة القضية وسكان الحي الراقي، جمع إفادات الشهود المصدومين والمرتبكين.
وقفت نور تراقب المشهد بعيون المحقق المتمرس، تحاول التقاط التفاصيل التي قد تغفلها الشرطة في زحمة الإجراءات. اقتربت من الضابط بهدوء، معرفة بنفسها كمحققة خاصة عرضت خدماتها كمساعدة للمعلومات إذا لزم الأمر. بينما كان حموكشة يقف متجمداً في مكانه، لا يعرف هل يساعد في تنظيم الكراسي أم يتصل بمحل الكباب المجاور ليسأل إذا كان مفتوحاً حتى الآن "لمواجهة أي طارئ".
على الجانب الآخر، كانت مريومة تتحرك بثقة زائدة، تتحدث بابتسامة واسعة مع اللواء عادل صدقي وزوجته، محاولةً استخلاص أي معلومة أو بناء علاقة قد تفيدها لاحقاً. أما العمروسي، فكان يقف منعزلاً قرب النافذة، يتظاهر بتصفح هاتفه، بينما كانت عيناه تمسحان الغرفة بحثاً عن كاميرات مراقبة خفية أو أي تفاصيل تكنولوجية لافتة، وربما يحاول التقاط أي إشارة واي فاي مفتوحة أو ضعيفة الحماية.
"وضع مؤسف حقاً، يا حضرة اللواء،" قالت مريومة بنبرة تعاطف مصطنع. "أن يحدث مثل هذا في مكان راقٍ كهذا... هل كانت السيدة تهاني تتوقع أي مشاكل مؤخراً؟"
هز اللواء صدقي رأسه. "تهاني في حالها دائماً، يا آنسة مريومة. لا أعداء لها على حد علمي. ربما مجرد عملية سطو فاشلة لشاب طائش."
في هذه الأثناء، كانت تهاني هانم تجلس على أريكة جانبية، وقد استعادت بعضاً من رباطة جأشها، وإن كانت يداها ترتعشان قليلاً وهي تمسك بكوب ماء قدمته لها نور. بجانبها، كانت درية هانم لا تزال تتحدث بسرعة وانفعال، تصف ما حدث لكل من يستمع إليها بتفاصيل متضاربة قليلاً.
"قلت لكم يا جماعة، الراجل ده كان عينيه بتبرق في الضلمة زي القطط! ومسك المسدس كإنه عنترة بن شداد! وأنا اترعبت وقلت يا ساتر يا رب، خلاص هنموت كلنا! مش كده يا توتو؟ قصدي يا تهاني هانم؟ يوووه أنا اتلخبطت خالص!" قالت درية هانم، وأعطت الاسم الخاطئ انتباهاً زائلاً من تهاني.
لاحظ تيمور، الذي كان يختبئ تحت الطاولة القريبة التي يغطيها مفرش طويل، ردة فعل تهاني هانم السريعة والمتوترة لزلّة لسان صديقتها. الاسم "توتو" لم يكن مألوفاً في السياق. ثم تحولت ملاحظة تيمور إلى العقد اللؤلؤي الذي لا تزال تهاني هانم تلمسه بيد مرتعشة، كأنه يمنحها الأمان. "هذا العقد... أكثر من مجرد زينة. إنه يخفي شيئاً ما... ربما هي تحاول إخفاء ارتعاش رقبتها... أو ما هو أهم؟"
اقتربت نور من الضابط المسؤول مرة أخرى. "يا حضرة الضابط، هل تم التحقق من كاميرات المراقبة في الشارع أو الفلل المجاورة؟ ومن نوعية المسدس الذي تم استخدامه؟ هل هو سلاح ناري حقيقي أم تم التلاعب به؟ رائحة البارود في المكان تبدو مختلطة وغريبة."
الضابط، الذي بدأ يقدّر ملاحظات نور الدقيقة، دونها في دفتره. "سيتم فحص كل شيء يا أستاذة نور. المسدس يبدو بدائياً، سيتم إرساله للمعمل الجنائي. سنراجع الكاميرات إن وجدت. لكن الإفادات حتى الآن... متضاربة حول شكل المهاجم وصوته وعدد الطلقات بالضبط."
انسحب مسعد برشاقة من تحت الأثاث، بعد أن رصد مداخل ومخارج الصالون بدقة، وموقع الهواتف والكاميرات التي يمكن استهدافها لاحقاً. ألقى نظرة احتقار نحو حقيبة نور التي شعر أنها تحوي غريمه القط الأبيض المزعج.
"طيب يا أستاذة،" همس حموكشة بعد أن تمالك أعصابه قليلاً. "يعني خلاص مفيش جريمة؟ الراجل المهاجم مات وصاحبة البيت اتصابت خفيف؟ نروح بقى؟ أنا جعان الصراحة."
"لا يا حموكشة،" قالت نور وهي تنظر إلى وجه تهاني هانم المتوتر وصديقتها درية المربكة. "الجريمة الحقيقية لسه بتبتدي. واللغز ده أعقد بكتير من اللي شايفينه."
كانت الخيوط الأولى قد بدأت تتشابك: هوية القتيل الغامضة، دافع الهجوم المجهول، ردود الفعل المتوترة للمضيفة، وتلميحات قط عبقري بدأت تتشكل حول عقد من اللؤلؤ وندبة محتملة.
في صباح اليوم التالي، كانت فيلا السكري قد استعادت بعضاً من هدوئها الظاهري، وإن كان هدوءاً ثقيلاً مشوباً بالحذر. بقايا شريط التحقيقات الأصفر لا تزال تشوه مدخل الشرفة، وصمت غريب يحل محل ضجيج الضيوف المعتاد.
عاد فريق نور إلى الفيلا مبكراً بحجة تقديم المواساة للسيدة تهاني ولمتابعة آخر المستجدات. استقبلتهم درية هانم بوجه متعب وعينين منتفختين من قلة النوم. "تهاني هانم نائمة الآن، الطبيب أعطاها مهدئاً، المسكينة لم تنم طوال الليل، الحادث أثر عليها كثيراً."
"نقدر ذلك، يا درية هانم،" قالت نور بتعاطف. "جئنا فقط للاطمئنان... ولنسأل إذا تذكرت أي تفاصيل جديدة قد تفيد."
"لا أعتقد يا بنتي،" تنهدت درية هانم وهي تجلس بتعب على أقرب مقعد. "كل ما أتذكره هو الظلام والرعب، وصوت الراجل اللي عامل زي صوت المذيعين القدام دول... والطلقات. الحمد لله إنها جت سليمة في أذن الهانم، قصدي قريبة من أذنها... كانت ممكن تموت فيها!"
ركز تيمور، المستقر بهدوء على كرسي بعيد، على هذه الملاحظة. الطلقة مرت قريبة جداً... قريبة بشكل مقصود ربما؟ لإضافة المصداقية على الهجوم؟ أم أنها محاولة فاشلة بالفعل؟
بينما كان حموكشة يحاول فتح حوار مع فهيمة، الخادمة، التي كانت تتحرك في أرجاء الفيلا بعيون زائغة وهمسات غير مفهومة ("ستنا ربنا ينجيها... بس العين عليها... عين الحسود")، لاحظت نور شيئاً لافتاً في سلوك درية هانم. كانت السيدة تتحدث بحماس ثم تصمت فجأة وتنظر إلى تهاني النائمة (أو المتظاهرة بالنوم في غرفتها) بتردد، كأنها غير متأكدة مما يجب أن تقوله.
"تبدو الهانم مختلفة قليلاً مؤخراً، أليس كذلك يا درية هانم؟" سألت نور بهدوء وبشكل عابر.
ارتبكت درية هانم. "مختلفة؟ لا أبداً... هي بس من التعب والقلق بعد الحادث..." ترددت للحظة ثم أكملت بصوت خفيض، "هو صحيح... من فترة كده تحسيها مش هي... يعني عارفة، حاجات بسيطة بتتغير... تنسى حاجات مكانتش تنساها أبداً، ولما بكلمها ساعات بردّ عليها بالاسم القديم اللي كنت بناديها بيه زمان... يوووه لخبطت تاني، قصدي... أصل صداقة العمر بقى، بنتلخبط ساعات."
"اسم قديم؟... مثير للاهتمام. هذه ليست مجرد زلات لسان عابرة. هذه نتاج ذاكرة مشوشة لصديقة عمر تشعر لا شعورياً بأن شيئاً ما ليس صحيحاً." تأمل تيمور.
في مكتبها الفخم بالزمالك، كانت مريومة تستمع لتقرير العمروسي المقتضب. "سعيد عرفة، القتيل، له سوابق بسيطة جداً، نشل، شيك بدون رصيد... لا شيء يدعم فكرة قيامه بعملية سطو مسلح بهذه الجرأة. لا يوجد دليل على أي علاقة سابقة له بتهاني السكري أو بفيلا الدقي. مسرح الجريمة يشوبه بعض الغموض من الناحية اللوجيستية. أما بالنسبة لتهاني السكري... ميراث والدها وزوجها موجود، لكن الوصية الأساسية تتعلق بثروة راندال جويدلر الإنجليزية، ويبدو أن تهاني هي الوريثة الأولى حالياً. الأمور تتضح تدريجياً."
"إذن، الدافع لقتلها موجود، وقوي جداً!" قالت مريومة بابتسامة ماكرة. "والعجوزة اللي عايشة معاها دي، درية، شكلها هي الحلقة الأضعف. لازم نعرف منها كل حاجة. جهز الخطة يا عمروسي. والقط بتاعك ده..." أشارت باحتقار إلى مسعد الذي كان ينظف فروه بلامبالاة، "خليه جاهز لأي خدمة سريعة."
"خدمة سريعة... أحب هذا المصطلح." فكر مسعد ببرود.
عادت نور وحموكشة وتيمور إلى مكتبهم، وشعور بالشك القوي بدأ يسيطر على نور. "درية هانم عندها حق، يا حموكشة. فيه حاجة مش مظبوطة في تهاني هانم دي. كأنها بتمثل دور... دور مش متقن أوي."
"يمكن خايفة يا أستاذة بعد اللي حصل؟ الستات الكبار ساعات بيوسوسوا." قال حموكشة.
"لا... ده أكتر من خوف،" قالت نور. ثم نظرت إلى تيمور الذي كان يحدق فيها بعمق كأنه يقرأ أفكارها. "وأنت كمان شاكك فيها يا تيمور؟"
أطلق تيمور مواءً خافتاً وقصيراً، كان كافياً لتأكيد شكوكها. الهدف الآن ليس فقط معرفة من قتل سعيد عرفة، بل التأكد من هوية مضيفة الحفل الغامض نفسها.
مر يومان على حادثة فيلا السكري، وتحولت القصة من مجرد حديث صالونات فضولي إلى لغز حقيقي يكتنفه الغموض والرعب بعد العثور على الشاب سعيد عرفة مقتولاً. الشرطة الرسمية كانت لا تزال تجمع الأدلة وتحلل إفادات الشهود المتضاربة، لكن الشعور العام بأن الحقيقة أبعد مما يبدو كان يسيطر على الجميع، وخاصة على فريق نور.
قررت نور أن تركز تحرياتها بعيداً عن مسرح الجريمة المباشر، لتبدأ في نبش ماضي السيدة تهاني هانم وسعيد عرفة. طلبت من حموكشة، بطريقته غير المباشرة التي يجيدها أحياناً، محاولة جمع أي معلومات من بواب العمارة المجاورة أو بائعي الصحف القدامى في الحي حول تاريخ الفيلا وسكانها وعلاقات تهاني هانم قبل وبعد وفاة زوجها. "حاول تعرف أي حاجة يا حموكشة، أي تفصيلة مهما كانت صغيرة، يمكن نلاقي طرف خيط."
"عينيا يا أستاذة!" قال حموكشة، "بس البواب ده شكله مكشر، مش عارف هيجيب لنا أخبار ولا هيطلب بقشيش!"
أما تيمور، فكانت مهمته أكثر دقة. راقب تهاني هانم عن كثب خلال زيارة صباحية قصيرة أخرى قاموا بها. لاحظ كيف تحرك يديها ببراعة لترتب العقد اللؤلؤي حول رقبتها كلما انحنت أو التفتت بسرعة، كأنها حركة لا إرادية ناتجة عن عادة قديمة لإخفاء شيء ما. لاحظ أيضاً كيف تتجنب النظر مباشرة في صور قديمة معلقة على الجدران تجمعها بزوجها الراحل، وكيف بدت إجاباتها عن بعض ذكريات الماضي البعيد سطحية ومترددة.
"إنه ليس مجرد حزن على الماضي،" فكر تيمور بتركيز. "إنه انفصال... انفصال عن ذكريات لا تخصها بالفعل. العقد يخفي ندبة، وأظن أن الذاكرة تخفي شخصية أخرى."
في الوقت نفسه، كان فريق الظل يتحرك بخطى أسرع وأكثر مكراً. أدركت مريومة أن درية هانم هي مفتاح كشف أي أسرار تخفيها تهاني. "الست العجوزة الطيبة دي بتقول كل حاجة من غير ما تقصد،" قالت لـالعمروسي. "لازم نستغل ده قبل ما نور توصل لها، أو قبل ما الست تهاني تسكتها."
قام العمروسي ببعض البحث السريع، وتوصل إلى معلومات عن روتين درية هانم اليومي وحبها لحضور ندوات ثقافية أو دينية في أحد المراكز القريبة. خططت مريومة لـ"مقابلة صدفة" معها هناك. وبالفعل، التقت بها في اليوم التالي، وتظاهرت بالتعاطف الشديد والقلق على تهاني هانم وصديقتها درية. "يا درية هانم، قلبي عندك والله، الموقف صعب، وتهاني هانم شكلها متغير فعلاً من الخضة..." بدأت مريومة في استدراجها بأسئلة تبدو بريئة.
شعرت درية هانم بارتباك متزايد. تضاربت في رأسها شكوكها حول التغيرات الطفيفة في سلوك تهاني وبين ولائها القديم لصديقتها. عادت إلى الفيلا وهي قلقة، وقررت أن تصارح تهاني بما يجول في خاطرها حول ملاحظات نور وكلام مريومة المريب.
في ذلك المساء، بينما كانت تهاني هانم في غرفتها، وحموكشة عاد بتقارير غير مفيدة من البواب ("بيقول إن الباشا كان ساكن هنا وخلاص")، تلقت نور اتصالاً هاتفياً عاجلاً من اللواء صدقي.
"يا نور يا بنتي... الحقيني... درية... درية هانم لقوها ميتة في أوضتها!"
هرعت نور وحموكشة وتيمور إلى الفيلا مرة أخرى، ليجدوا الشرطة قد وصلت بالفعل، وأجواء الصدمة تخيم على المكان. درية هانم كانت مستلقاة على سريرها، بجوارها كوب ماء وعلبة "الأسبرين" الخاصة بها مفتوحة. لا توجد علامات عنف واضحة، وكل المؤشرات الأولية تشير إلى جرعة زائدة عرضية أو... متعمدة.
"لا يمكن!" صرخت تهاني هانم بهستيرية (ربما حقيقية هذه المرة، أو جزء من التمثيل). "كانت كويسة الصبح! لا يمكن تكون عملت في نفسها حاجة! أكيد القاتل ده رجع تاني... وكان عايزني أنا وهي خدت الدوا بالغلط!"
نظرت نور إلى العلبة، ثم إلى الكوب، ثم إلى وجه تهاني هانم المنهار. الشك تعمق أكثر. هل كانت درية هي الضحية المقصودة بالفعل هذه المرة لأنها أصبحت تعرف الكثير أو كادت؟
"الأسبرين مجدداً... هل هو مصيدة سهلة لإخفاء سم حقيقي؟ السم لا يترك آثار عنف واضحة... هذا يضيق دائرة المشتبهين لتشمل من يمكنه الوصول إلى دوائها بسهولة... من داخل الفيلا." كان تيمور يحلل الموقف، مستبعداً فكرة الخطأ العرضي تماماً.
أدرك الجميع الآن أن الخطر حقيقي، وأن القاتل لا يزال طليقاً وموجوداً بينهم، وأن تهاني هانم السكري، أو من تنتحل شخصيتها، تقف في قلب العاصفة، ربما كهدف... أو كفاعل.
وفاة درية هانم شاكر بهذه الطريقة الصادمة ألقت بظلال كثيفة من الخوف والريبة على فيلا السكري وعلى الحي بأكمله. أصبحت القصة حديث المدينة، وتناقلت الصحف أخبار "جرائم فيلا الدقي الغامضة". نور شعرت بعبء المسؤولية يتضاعف؛ لم يعد الأمر مجرد لغز مثير، بل سباق مع الزمن لمنع وقوع جريمة ثالثة محتملة.
"الموضوع ده فكرني بقضية قديمة كانت بتحكيها لي ستي الله يرحمها عن جريمة في إنجلترا وإعلان في الجرايد... كانت قصة غريبة وفيها لغز كبير حوالين وريثة وميراث..." قالت نور لـحموكشة وهي تقلب في أوراق القضية. "هناك تشابه في الجو العام... الإعلان المريب، الضحية الأولى الغامضة، والخطر المحيط بصاحبة الدعوة."
حموكشة هز رأسه بقلق حقيقي هذه المرة. "يعني ممكن الست تهاني تتقتل بجد يا أستاذة؟ طب والحل؟ نخليها تيجي تقعد معانا هنا في المكتب لحد ما نقفش القاتل؟ بس الكنبة دي يا دوب تكفي تيمور!"
"الحل إننا نكشف حقيقة تهاني دي الأول،" قالت نور بحسم. "إذا كانت هي شادية المنتحلة شخصية أختها، فلازم يكون فيه دليل. فين أهل زوجها القدامى؟ أصدقاء الطفولة؟ أي حد يعرف لتيتا وشادية الحقيقيين." بدأت في البحث في دليل التليفونات القديم وعلى الإنترنت عن أي شخص يحمل اسم عائلة السكري ويكون على قيد الحياة وقد يعرف العائلة عن قرب.
في الجانب الآخر، كان فريق الظل يحلل الوضع ببرود. "موت الست درية ده خَسَّرنا كارت مهم كنا ممكن نلعب بيه،" قالت مريومة بامتعاض. "دلوقتي الشك كله هيروح لـتهاني، ولو كانت هي القاتلة، هتبقى حذرة جداً."
"التحليل المبدئي لظروف الوفاة يشير إلى تسمم بمادة قلوية تم إضافتها إلى الأسبرين، تسبب توقف القلب أثناء النوم،" قال العمروسي وهو يقرأ من شاشة هاتفه. "طريقة قديمة ولكنها فعالة إذا تم تنفيذها بدقة... وتحتاج لشخص يعرف روتين الضحية وأدويتها. تركيز التحقيق يجب أن ينصب على المقيمين في الفيلا الآن: تهاني/شادية، باسم، نرمين، والخادمة فهيمة."
"فهيمة... تبدو خائفة جداً، ولكن الخوف أحياناً يكون قناعاً للدهاء..." فكر مسعد وهو يراقب خيال الخادمة تتحرك خلف ستائر النافذة المقابلة.
أثناء تفتيش رجال الشرطة (بموافقة تهاني/شادية المذعورة) لغرفة درية هانم بحثاً عن أي دليل، كان تيمور، مستغلاً الفوضى، يتسلل داخل الغرفة هو الآخر. بخبرته في استكشاف الزوايا المظلمة والروائح الخفية، شم رائحة باقية حول علبة الدواء... رائحة خفيفة ولكنها مميزة تشبه رائحة المنظفات القوية أو مبيد حشري قديم. "المادة القلوية... نعم. ولكن من أين أتت؟ هذه ليست رائحة أسبرين فاسد فقط."
عثرت نور أخيراً على رقم هاتف محامٍ قديم كان يعمل لدى شركة السكري باشا. بعد تردد، اتصلت به وعرفت بنفسها. "يا أستاذ... كنت أرغب في الاستفسار عن بعض التفاصيل القديمة بخصوص المرحومة لتيتا هانم السكري، أخت السيدة شادية..."
جاء رد المحامي العجوز متفاجئاً. "لتيتا وشادية؟ أنا أعرف تهاني هانم أرملة الباشا، وكنت أعرف المرحومة أختها لبيبة التي توفيت بمرض صدري منذ زمن طويل... أما شادية ولتيتا، فلا أعرف أسماء كهذه في عائلة السكري باشا على الإطلاق!"
شعرت نور بقشعريرة تسري في جسدها. لبيبة؟ ليس شادية أو لتيتا؟ إذن القصة التي تعرفها تهاني/شادية عن نفسها وأختها ملفقة بالكامل، وهي تستخدم أسماء أخرى ربما تخص قصة ميراث راندال جويدلر الإنجليزية! الخيوط بدأت تتضح الآن، ولكن الخطر أصبح أكبر.
"حموكشة،" قالت نور بصوت حاسم. "لازم نوصل فيلا الدقي فوراً. أعتقد إني عرفت السر... والقاتل هيضرب تاني قريب جداً لمنع السر ده من الانتشار."
نظر تيمور إلى نور وقد التقطت عيناه لمعة الانتصار الممزوجة بالقلق في عينيها. اللغز على وشك الحل، ولكن المواجهة الأخيرة قد تكون الأخطر.
سيارة حموكشة القديمة انطلقت بأقصى سرعة (وهو ما لم يكن سريعاً جداً بمقاييس السيارات الحديثة) عائدةً إلى الدقي. في الداخل، كان الصمت يسود، صمت مشحون بالقلق والترقب. نور تراجع في ذهنها كل المعلومات المتضاربة، تربط بين الأسماء المفقودة والقصص الملفقة ورائحة الماضي التي فاحت فجأة. حموكشة يمسك بعجلة القيادة بقبضة بيضاء، يتمتم بآيات قرآنية قصيرة، بينما تيمور يقف متأهباً داخل الحقيبة، حواسه كلها تعمل بأقصى طاقتها، مستشعراً الخطر الوشيك.
"لازم نوصل قبل ما تعمل أي حاجة!" قالت نور بحزم، وطلبت من حموكشة أن يتصل بالضابط المسؤول ويخبره بأن لديهم معلومات جديدة وحيوية قد تشير إلى هوية الجاني الحقيقية واحتمال وجود خطر داهم على المقيمين في الفيلا، دون أن تكشف كل أوراقها عبر الهاتف.
عند وصولهم إلى شارع مصدق، لاحظوا وجود سيارة سوداء فارهة ذات زجاج داكن تقف على بعد مسافة قصيرة من مدخل الفيلا، لم تكن موجودة من قبل. مريومة والعمروسي وصلا قبلهما، لكنهما لم يدخلا، بل كانا يراقبان المكان من بعيد.
"الوضع يتصاعد، يا أستاذة مريومة،" قال العمروسي وهو يحلل حركة الاتصالات الضئيلة الصادرة من الفيلا. "وصول فريق نور المفاجئ بعد وفاة الصديقة يشير إلى أنهم توصلوا لشيء ما. ربما حان وقت التحرك قبل أن تفسد علينا الطبخة."
"لا... ليس بعد،" قالت مريومة وعيناها تلمعان بترقب. "دع نور تدخل أولاً، لترَ ما ستكشفه. سننتظر اللحظة المناسبة... العرض الأخير دائماً هو الأكثر إثارة." أرسلت نظرة سريعة إلى مسعد الذي انسل من السيارة واختفى كالشبح بين شجيرات الحديقة المهملة للفيلا المجاورة.
دخلت نور وحموكشة إلى الفيلا بحذر. كانت الأجواء بالداخل أكثر توتراً من الصباح. تهاني/شادية كانت تسير في الصالون بخطوات متوترة، تتحدث في الهاتف بصوت خافت ولكن بنبرة حادة. الشابان باسم ونرمين كانا يجلسان في ركن بعيد، يبدو عليهما القلق المفتعل أو الحقيقي. أما فهيمة الخادمة، فكانت تتنقل كالشبح، تجمع فناجين القهوة الفارغة بعيون خائفة.
استقبلت تهاني/شادية نور بابتسامة باهتة، "أهلاً يا أستاذة نور... أي أخبار جديدة؟"
"جئت للاطمئنان فقط يا هانم، ولأسألكِ عن بعض التفاصيل الصغيرة التي قد تكون مهمة،" قالت نور وهي تحاول أن تبدو هادئة وطبيعية. "بخصوص علاقتك بـ... بـ أختكِ... لبيبة." تعمدت نور ذكر الاسم الخطأ الذي قاله لها المحامي، وراقبت ردة فعل مضيفتها.
اتسعت عينا تهاني/شادية للحظة بذعر قبل أن تتماسك بسرعة مذهلة. "لبيبة؟ من لبيبة؟ أختي المرحومة كان اسمها لتيتا... ربما أنتِ مخطئة يا أستاذة." لكن نبرة صوتها فقدت الكثير من ثباتها.
في تلك اللحظة، ظهر حموكشة من ناحية المطبخ حاملاً صينية عليها فناجين شاي ساخنة (تطوع بتحضيرها في محاولة لتهدئة الأجواء وللتقرب من المطبخ مصدر أي عزومة محتملة لاحقاً). قدم فنجاناً لـنور، ثم تردد وهو يقدم فنجاناً لـتهاني/شادية. عثرت قدمه "بالصدفة" بطرف السجادة، فانسكب القليل من الشاي الساخن على يد تهاني/شادية التي سحبتها بسرعة متألمة، وانزاح كم فستانها قليلاً ليكشف... عن لا شيء مميز. كانت الحركة سريعة، ولكن تيمور، الذي كان يراقب من تحت الأريكة القريبة، لمح تغيراً طفيفاً في لون الجلد عند العنق حيث يستقر عقد اللؤلؤ... تغير يوحي بندبة قديمة جداً، متقنة الإخفاء بالمساحيق.
انتفضت تهاني/شادية بغضب وألم، ونسيت للحظة دور السيدة الأرستقراطية الهادئة. "ألا ترى أمامك يا رجل! احترقت! هذا غباء لا يطاق!"
قبل أن يعتذر حموكشة بارتباك، تدخلت نور بسرعة محاولة تهدئة الموقف، لكنها كانت قد رأت ما تريد... ورأى تيمور ما يريد. لم تكن هناك حاجة لرؤية الندبة بوضوح، فرّدة الفعل نفسها، وحركة اليد السريعة للعنق حيث يقع العقد، أكدت شكوكهما.
في هذه اللحظة المشحونة، اخترق رنين جرس الباب الصمت. تبادل الجميع النظرات بقلق. هل هي الشرطة؟ أم... زائر غير متوقع؟ ذهبت فهيمة لتفتح الباب وهي ترتجف...
نظرت نور نحو باب الصالون بترقب، ولاحظت انعكاس ضوء خافت على سطح مصقول لطاولة جانبية... كان الانعكاس لشبح أسود يتحرك بخفة في الحديقة عبر النافذة الخلفية... مسعد يتخذ موقعه.
لم يكن القادم هو الشرطة، بل كانتا سيدتين أنيقتين تحملان باقة زهور كبيرة، يبدو أنهما من المعارف البعيدين جاءتا لتقديم واجب العزاء في السيدة درية. وجودهما أربك الموقف أكثر، وأعطى تهاني/شادية فرصة لاستعادة هدوئها الظاهري وتأجيل أي مواجهة.
لكن نور كانت قد حسمت أمرها. بعد مغادرة المعزيتين، طلبت بهدوء من تهاني/شادية أن تتحدث معها على انفراد "بشأن معلومة أمنية مهمة تخص سلامتها". وافقت تهاني/شادية بتردد، واصطحبتها إلى غرفة مكتب زوجها الراحل، مكتبة قديمة تفوح منها رائحة الكتب والجلد.
أغلقت نور الباب بهدوء خلفها. "سيدة شادية..." قالت نور مباشرة، مستخدمة الاسم الذي تأكدت أنه الاسم الحقيقي، وراقبت تأثيره على المرأة المقابلة لها.
شحب وجه تهاني/شادية تماماً، وارتعشت شفتاها. حاولت التظاهر بالغضب أو الاستنكار، لكن عينيها كانتا تفضحان الخوف. "من أين لكِ بهذا الاسم؟ أنتِ تخلطين الأمور..."
"لم أعد أخلط الأمور يا سيدة شادية، أو بالأحرى آنسة شادية، شقيقة لتيتا الحقيقية التي ماتت في سويسرا،" واصلت نور بهدوء قاطع. "المحامي القديم لا يعرف اسماً يدعى لتيتا أو شادية في عائلة زوجك الراحل، بل يعرف تهاني وأختاً تدعى لبيبة. القصص متضاربة، وأنتِ تستخدمين مزيجاً من الحقائق والأكاذيب لتغطية انتحالك لشخصية أختك بهدف الحصول على ميراث راندال جويدلر... العقد الذي لا يفارق رقبتكِ... أعتقد أنه يخفي أكثر من مجرد لؤلؤ ثمين."
في هذه اللحظة، وكأنها محاصرة في فخ لا مفر منه، انهارت شادية تماماً. تخلت عن كل مظاهر القوة والأرستقراطية، وبدأت في البكاء بمرارة حقيقية. "نعم... نعم أنا شادية... ماذا كنتم تتوقعون؟ أن أعيش بقية حياتي قبيحة ومنبوذة بينما أختي 'الجميلة' لتيتا تحصل على كل شيء؟ على الحب والاهتمام والمال... وحتى الموت أخذها قبل أن تتذوق مرارة الخذلان!"
وبدأت في سرد قصتها الحقيقية: غيرتها من أختها الجميلة والمدللة لتيتا، مرض الغدة الدرقية الذي شوهها في شبابها ورفض والدها علاجها، العملية الجراحية الناجحة في سويسرا التي أعادت لها بعض الثقة ولكن تركت ندبة، علمها بميراث جويدلر من خلال رسائل أختها، ثم وفاة لتيتا المفاجئة (ربما بمرض فعلاً أو بحادث غير مقصود، أو ربما ساعدت شادية في ذلك بطريقة غير مباشرة؟)، فانتحلت شخصيتها وعادت إلى مصر لتبدأ حياة جديدة تحت اسم لتيتا، حتى ظهر الشاب سعيد عرفة الذي عمل بالمصحة وتعرف عليها، فبدأ بابتزازها بهدوء.
"دبرت الإعلان 'الحدث الجلل' لأجعله يأتي إلى هنا في الوقت المناسب وسط الزحام والفوضى، واتفقت معه على تمثيلية الهجوم مقابل مبلغ من المال سيحصل عليه لاحقاً،" اعترفت شادية بصوت مخنوق. "لكنني كنت أخطط لقتله في الظلام بسلاح حقيقي أخفيته معي، لأتخلص منه ومن تهديده للأبد... وضعت مسدسه القديم بجواره ليبدو الأمر كأنه تبادل إطلاق نار... لكن الرصاصة الثالثة التي أصابت أذني بالخطأ أربكتني."
"ودرية؟" سألت نور بأسى.
"درية الطيبة الثرثارة... بدأت تشك، تخلط بيني وبين لتيتا، تلاحظ أشياء صغيرة... كانت ستكشفني، كان يجب أن أسكتها... والآنسة اعتدال، بالتأكيد رأتني أتحرك في الظلام نحو باب الشرفة في تلك الليلة..."
في الخارج، كان حموكشة يحاول منع مريومة وفريقها من اقتحام المكتب بعد أن سمعوا صوت الانهيار والبكاء. "ممنوع الدخول، الأستاذة نور في تحقيق سري جوه!"
"تحقيق سري ولا بتتفق معاها على تقسيم الغنيمة؟ وسع كده يا حموكشة!" حاولت مريومة دفعه.
لكن في تلك اللحظة، ظهر تيمور فجأة، قفز بخفة مدهشة فوق رأس حموكشة ليهبط مباشرة أمام مسعد الذي كان يتربص به. أطلق تيمور هسهسة قوية وغير متوقعة أربكت مسعد للحظة، وجعلت مريومة تتراجع بذعر من ردة فعل القط الهجومية. استغل حموكشة هذه اللحظة ليغلق الباب بإحكام، بينما كانت أصوات سيارات الشرطة تقترب بسرعة من الفيلا.
تم القبض على شادية السكري وهي منهارة. فريق مريومة انسحب بهدوء قبل وصول الشرطة، تاركين وراءهم مهمة ابتزاز فاشلة وخيبة أمل جديدة. أما باسم ونرمين، فتبين أنهما مجرد شابان طموحان استغلا طيبة شادية وانتحلا صفة الأقارب للحصول على مأوى مؤقت، ولم يكونا على علم بخططها الإجرامية.
وقفت نور في بهو الفيلا بعد أن هدأت العاصفة، نظرت إلى حموكشة الذي بدا فخوراً "بشجاعته"، ثم إلى تيمور الذي كان يلعق فروه بهدوء وكأن شيئاً لم يكن. "انتهى لغز إعلان الدقي يا تيمور،" قالت بابتسامة متعبة. "ولكن رائحة الجشع والخداع لا تزال تملأ المكان."
"الجشع والخداع يا نور... أمراض بشرية مزمنة،" فكر تيمور. "لكن كشف الحقيقة... يبقى هو الانتصار الوحيد الممكن." ثم نظر نحو طبق فارغ كان مخصصاً للضيوف... ربما حان وقت وجبة تعويضية بعد هذه المغامرة الطويلة.
هدأت الفوضى تدريجياً في فيلا السكري بعد اقتياد شادية المنهارة إلى سيارة الشرطة. رجال الأمن أنهوا إجراءاتهم الأولية، وسمحوا للشابين المصدومين، باسم ونرمين، بالبقاء مؤقتاً في الفيلا تحت الملاحظة حتى تتضح الصورة الكاملة لوضعهما القانوني. كانا يجلسان في زاوية الصالون، يتبادلان نظرات قلقة، ويبدو عليهما مزيج من الارتياح للخلاص من الكابوس والشعور الخفي بالذنب لاستغلالهما طيبة المرأة التي تبين أنها قاتلة.
جلست نور على طرف الأريكة بتعب، تراقب موظف النيابة وهو يجمع آخر أوراقه. "انتهى الأمر إذن،" قالت بصوت خافت، وكأنها تحدث نفسها. قضية معقدة، دافعها الجشع والغيرة والخوف من الماضي، نسجت خيوطها امرأة محطمة حولت يأسها إلى وحشية.
"الحمد لله يا أستاذة إنها خلصت على كده!" قال حموكشة وهو يمسح جبينه بمنديل ورقي. "الواحد قلبه كان هيقف من الخضة واللخبطة. بس الحق يتقال، إنتي كنتي عشرة على عشرة في كشفها! لازم الست دي تشكرنا على إنقاذها!" أشار برأسه نحو تهاني/شادية التي كانت قد اختفت داخل سيارة الشرطة.
ألقى تيمور، الذي خرج أخيراً من مخبئه الآمن تحت الأريكة، نظرة فلسفية على آثار الفوضى: فناجين قهوة منسكبة، غبار متناثر، وصمت يحمل ثقل الجريمة. "البشر... كائنات تدفعها الرغبة واليأس إلى حافة الهاوية، ثم تتعجب حين تسقط فيها. شادية كانت ضحية لظروفها، ثم أصبحت بدورها جلاداً للآخرين. حلقة مفرغة من الألم."
في السيارة السوداء التي ابتعدت بهدوء عن محيط الفيلا قبل وصول الشرطة مباشرة، كان التوتر مختلفاً. مريومة كانت تحدق في الظلام بغضب صامت. "الحقيرة! كيف تجرؤ نور على خطف القضية من تحت أنفي بهذا الشكل؟ كنا على وشك إتمام الصفقة مع شادية، نساعدها تهرب باللي حيلتها مقابل نسبة محترمة، وهي تسبقنا كالعادة!"
"تحليل ما بعد الحدث يشير إلى خطأ في تقدير سرعة رد فعل نور، بالإضافة إلى عامل غير متوقع... تدخل قطها الأليف،" قال العمروسي ببرود وهو يراجع بعض البيانات على هاتفه. "لكن البيانات التي جمعناها عن خلفية راندال جويدلر وميراثه، وعن شبكة علاقات شادية المحتملة في سويسرا... قد لا تزال تحمل قيمة ما."
أطلق مسعد، الجالس في المقعد الخلفي، مواءً خافتاً وغير راضٍ. لقد أفسد القط الأبيض خططه للمراقبة وربما تنفيذ مهمة صغيرة.
في طريق العودة إلى المكتب، شعرت نور بشيء من عدم الارتياح. صحيح أن القاتلة اعترفت، واللغز الأساسي تم حله، لكن بعض التفاصيل بدت غير مكتملة. قصة باسم ونرمين وادعائهما أنهما مجرد أصدقاء استغلا الموقف تبدو واهية قليلاً. لماذا يخاطران بالبقاء مع امرأة بدت واضحة الغرابة والتوتر؟ وهل كان سعيد عرفة يعرف فقط هوية شادية الحقيقية أم أنه كان يعلم شيئاً آخر؟ الأسئلة لا تزال تتردد في ذهنها.
عادت الحياة إلى روتينها المعتاد في مكتب نور عبد الحميد، لكن أصداء قضية فيلا الدقي لم تتبدد بسهولة. الملف أُغلق رسمياً بإدانة شادية السكري (وهو الاسم الذي ستُعرف به قانونياً الآن) بالقتل العمد مع سبق الإصرار لثلاثة أشخاص، لكن نور كانت لا تزال تعيد قراءة إفادات الشهود والتقرير الأولي للمحامي، تشعر أن هناك حلقة مفقودة صغيرة.
أثرت القضية عليها شخصياً أيضاً. قصص الغيرة والحرمان والخداع العائلي جعلتها تفكر في علاقتها المعقدة بأسرتها. أمسكت بالهاتف عدة مرات لتتصل بوالدتها، ليس للشكوى كالعادة، بل ربما للمحاولة... محاولة فهم، أو على الأقل فتح حوار هادئ بعيداً عن المقارنات والإحباطات القديمة.
حموكشة، من جانبه، حاول استغلال "بطولته" المفترضة في مواجهة مريومة ليلفت نظر الآنسة لولو سكرتيرة مكتب المحاماة المجاور. "يا آنسة لولو، شوفتي آخر قضية حليناها؟ عصابة دولية وقطط بتتخانق وأنا وقفت لهم زي الأسد!" لكن محاولته باءت بالفشل المعتاد عندما قابلته لولو بابتسامة مجاملة وبرود واضح وهي تغلق باب مكتبها في وجهه.
(حموكشة لنفسه: هي ليه بتعمل معايا كده؟ مش يمكن أطلع أشهر من جيمس بوند في يوم من الأيام؟)أما تيمور، فقد عاد إلى مراقبته الفلسفية الصامتة، ولكنه لاحظ شرود نور المتكرر. في إحدى المرات، قفز بهدوء إلى طاولة المكتب، ووضع مخلبه الأمامي بخفة على ملف القضية، تحديداً على الصفحة التي تحوي شهادة باسم ونرمين وادعائهما أنهما صديقان من الإسكندرية تعرفا على شادية "بالصدفة". ثم أطلق مواءً قصيراً موجهاً لـنور.
في مكتبها المطل على النيل، كانت مريومة تضع خططاً جديدة. فشلها في قضية الدقي زاد من إصرارها على الانتقام من نور. "لازم نلاقي لها غلطة يا عمروسي! أي حاجة توقعها! راجع لي كل قضاياها القديمة، شوف اتصالاتها، حساباتها... مستحيل تكون ملاك ماشي على الأرض زي ما بتحاول تظهر."
"المعلومات المتوفرة عنها محدودة وسطحية، الأستاذة نور تبدو حريصة في معاملاتها الرقمية،" رد العمروسي بهدوء وهو يعمل على حاسوبه. "ولكن هناك احتمال آخر... ورثة راندال جويدلر الحقيقيون في حال إثبات عدم أهلية شادية للميراث حتى قبل ارتكاب جرائمها بسبب انتحال الشخصية. هذه المعلومة قد تساوي ثروة لمن يوصلها للشخص المناسب في الوقت المناسب." لمعت عينا مريومة ببريق الطمع.
مواء تيمور وإشارته إلى ملف باسم ونرمين لم تمح من ذاكرة نور. "أنت كمان مش مرتاح لهم يا تيمور؟" همست للقط الذي رمقها بنظرة ذات معنى. "قصة إنهم أصدقاء جت معاها دي مش مقنعة. إزاي وثقت فيهم بسهولة وخلتهم يقعدوا في بيتها؟ شادية كانت حذرة وموسوسة أكتر من كده بكتير."
قررت نور استخدام أحد معارفها القدامى في مصلحة الأحوال المدنية بالإسكندرية للتحقق من الأسماء والعناوين التي قدمها باسم ونرمين في شهادتهما الرسمية. جاء الرد بعد يومين ليؤكد شكوكها: لا وجود لشابين بهذه المواصفات مسجلين في العناوين المذكورة بتلك الفترة الزمنية.
"كنت أعلم!" قالت نور بحزم. "لقد كذبا على الشرطة... وعلىّ. لكن لماذا؟ هل هما متورطان بشكل أعمق مما نعتقد؟ أم يخفيان سراً آخر؟"
توجهت نور فوراً إلى الفيلا لمواجهتهما. هذه المرة، استقبلها الشابان وحدهما، وكان يبدو عليهما التوتر الشديد بعد رحيل شادية وبقاء وضعهما غامضاً. عندما واجهتهما نور بكذبهما، انهار الشاب باسم واعترف بسرعة.
"لم نكن نعرف أنها قاتلة! أقسم لكِ! كل ما في الأمر..." تردد ونظر إلى نرمين التي أومأت برأسها بقلة حيلة، "كل ما في الأمر أننا لسنا أصدقاءها، ولسنا حتى باسم ونرمين السكري... نحن حقاً من الإسكندرية، ولكن أسماؤنا الحقيقية مختلفة، ونحن... نحن متزوجان حديثاً وهربنا من أهلنا بسبب رفضهم لزواجنا، وكنا نبحث عن مكان نختبئ فيه لفترة. قابلنا الآنسة شادية بالصدفة في محطة القطار، وكانت تبدو طيبة ووحدانية، فلفقنا قصة أننا أقاربها من بعيد، وهي صدقتنا أو تظاهرت بالتصديق، ووافقت أن نقيم معها مؤقتاً... لم نعرف أي شيء عن خططها."
نظرت نور إليهما بشفقة ممزوجة بالحذر. قصتهما تبدو منطقية نوعاً ما، تفسر سلوكهما المتردد وإقامتهما في الفيلا، ولكنها لا تنفي إمكانية معرفتهما بأي تفاصيل أخرى. لكن اعترافهما المتأخر وكذبهما الأولي قد يضعهما في موقف قانوني صعب.
في هذه الأثناء، تلقت مريومة اتصالاً من العمروسي. "تم تحديد مكان ورثة محتملين لآل جويدلر في لندن... يبدو أن شقيقة سونيا، والدة التوأم المفترضين، تزوجت وأنجبت، ونسلها موجود. المعلومة بخصوص بطلان حق شادية في الميراث بسبب انتحال الشخصية قبل حتى الجرائم، قد تفتح لهم باباً للمطالبة بالثروة كاملة."
"ممتاز يا عمروسي! جهز ملفاً كاملاً وأرسله لهم بعنوان مكتبي... سأتولى أنا 'مساعدتهم' في الحصول على حقوقهم... بمقابل بسيط طبعاً!" ابتسمت مريومة ابتسامة انتصار. ربما خسرت جولة، لكن الحرب على الميراث بدأت للتو.
وصل خبر اعتراف باسم ونرمين الحقيقيين إلى نور عن طريق الضابط المسؤول. تنهدت بارتياح لأن الخيط الأخير تم حله. الشابان سيواجهان بعض المشاكل القانونية بسبب انتحالهما للصفة، ولكنهما على الأرجح ليسا متورطين في الجرائم نفسها. القضية أصبحت الآن مكتملة الأركان حقاً.
جلس فريق نور في مكتبهم الصغير، يتناولون الشاي بالنعناع الذي أعده حموكشة احتفالاً بانتهاء القضية المعقدة. "يعني خلاص يا أستاذة؟ الست القاتلة مقبوض عليها، والشابين بتوع إسكندرية طلعوا بس عرسان هربانين؟" سأل حموكشة للتأكيد.
"بالظبط يا حموكشة،" أجابت نور وهي ترتشف الشاي. "شادية اعترفت بكل شيء، ودافعها كان مزيجاً من اليأس والطمع والغيرة من حياة لم تعشها. قصة حزينة في النهاية، لولا الجرائم البشعة التي ارتكبتها."
"بس غريبة أوي قصة التوأم دول والميراث الإنجليزي ده!" قال حموكشة. "يعني ممكن بيب ده اللي محدش يعرف هو مين ده كله يظهر وياخد الفلوس كلها؟"
"القانون سيأخذ مجراه في موضوع الميراث يا حموكشة، وهذا لم يعد من اختصاصنا،" قالت نور. "ما يهمنا أننا كشفنا الحقيقة هنا، وأوقفنا سلسلة الجرائم."
تيمور كان يتأمل المشهد من فوق الأريكة. لقد تم كشف الحقيقة فعلاً، ولكن الثمن كان باهظاً: ثلاث أرواح أُزهقت، وحياة أخرى دُمرت خلف القضبان، وأسئلة كثيرة حول العدالة والمصير والطبيعة البشرية بقيت معلقة في الهواء. "هل تستحق أي ثروة كل هذا الألم؟" تساءل في صمت.
في مكتبها الفاخر، كانت مريومة تراجع العقود التي أرسلتها للمحامين في لندن. ابتسمت بارتياح وهي تتخيل الأتعاب الضخمة التي ستحصل عليها من قضية الميراث الجديدة. "شكراً لكِ يا نور... لقد فتحتِ لي باباً للثراء دون أن تقصدي،" همست بسخرية، بينما مسعد يخرخر بهدوء عند قدميها.
أنهت نور كوب الشاي ونظرت حولها في مكتبها المتواضع. لا ثروة طائلة هنا، فقط ملفات قضايا تنتظر الحل، وشاي بالنعناع، ومساعد طيب القلب، وقط فيلسوف. ابتسمت ابتسامة هادئة. ربما لم تكن حياتها براقة كميراث جويدلر، لكنها كانت حقيقية، مليئة بالتحديات والمعنى... معنى البحث عن الحقيقة، مهما كان الثمن.
"يلا يا حموكشة،" قالت وهي تنهض. "قدامنا شغل كتير، وملفات تانية مستنيانا."
أومأ حموكشة بحماس، بينما أغلق تيمور عينيه الزرقاوين ليستريح قليلاً، مستعداً للمغامرة القادمة في دروب القاهرة وألغازها التي لا تنتهي.
(نهاية مغامرة لغز إعلان الدقي)